المقالات

إيران ووكالة الطاقة الذرية: اختبار النيات وحدود الرقابة. .. محمد الحيدري

إيران ووكالة الطاقة الذرية: اختبار النيات وحدود الرقابة


محمد علي الحيدري

واشنطن

مرةً أخرى، تعود العلاقة بين الجمهورية الإسلامية في إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) إلى الواجهة، بعد صدور تقرير جديد أواخر مايو 2025 يُشير إلى ازدياد ملحوظ في مخزون إيران من اليورانيوم المخصب، ويعيد التذكير بوجود آثار مواد نووية في مواقع غير مصرّح بها سابقًا. ويأتي هذا التقرير في لحظة حرجة من الجمود السياسي المحيط بالاتفاق النووي، بينما تواصل طهران من جانبها التأكيد على سلمية برنامجها النووي، ورفضها لما تعتبره “قراءات غير فنية” لتصرفاتها، تستند أحيانًا إلى معلومات استخبارية قدمتها أطراف لا تتمتع بالحياد.

الوكالة، من جهتها، تؤدي دورًا محوريًا في مراقبة التزامات الدول الأعضاء في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، ويصعب تجاهل ثقلها التقني والمعنوي في ضبط مسارات التخصيب والتصنيع النووي عبر العالم. غير أن العلاقة بينها وبين إيران ليست علاقة تقنية فحسب، بل مشبعة بتعقيدات سياسية وتاريخ من انعدام الثقة المتبادل، يعود في بعض محطاته إلى ما قبل الاتفاق النووي لعام 2015. في هذا السياق، يمكن فهم موقف إيران الرافض لبعض استنتاجات التقرير الأخير على أنه امتداد لقلق مستمر من تسييس بعض الملفات، لا سيما حين تستند الوكالة إلى “معلومات من أطراف ثالثة” دون تقديم هذه المعلومات لإيران بشكل كامل.

في صلب الجدل الراهن، توجد قضيتان رئيسيتان: أولهما، حجم اليورانيوم المخصب لدى إيران بنسبة تصل إلى 60%، والذي تخطى مؤخرًا 400 كيلوغرام، ما يثير مخاوف بعض العواصم الغربية من أن طهران باتت تملك قدرة فنية تقترب من إنتاج سلاح نووي في حال اتخاذ قرار سياسي بذلك. أما إيران، فترى أن هذه النسبة لا تمثل خرقًا طالما أن إنتاجها يجري في ظل مراقبة الوكالة، وأن التزاماتها في إطار خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) تراجعت بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق عام 2018 وعدم وفاء الأوروبيين بتعهداتهم.

القضية الثانية تتعلق بوجود آثار يورانيوم في مواقع مثل تورقوزآباد و”موقع ثالث” لم يُعلن عنه رسميًا بعد. هنا تقول الوكالة إن طهران لم تقدّم توضيحات كافية بشأن مصدر هذه الآثار، فيما ترد إيران بأن هذه المواقع قديمة، وبعضها أُغلق منذ سنوات، وأن إثارة هذه القضايا المتكررة دون الأخذ بردودها أو مناقشتها في إطار حوار فني هادئ يُضعف الثقة في نزاهة العملية. وقد عبّر مسؤولون إيرانيون عن استعداد بلادهم للتعاون الكامل، شريطة أن لا تتحول تقارير الوكالة إلى أدوات ضغط سياسي بدلاً من كونها أدوات مراقبة موضوعية.

وإذا كان تقرير الوكالة يمثل في الأصل وثيقة فنية، إلا أن توظيفه سياسيًا ليس خافيًا. ففي واشنطن، يُستخدم التقرير لتغذية مقاربة تفاوضية أكثر تشددًا، في محاولة لإجبار طهران على تقديم تنازلات أوسع مقابل تخفيف محدود للعقوبات. أما في العواصم الأوروبية، فيبدو أن بعض الأطراف تسعى إلى تحويل التقرير إلى أداة ضغط علني تُبرر تحريك آليات إنذار أو تجميد بعض بنود التعاون المدني، في سياق أوسع من الارتياب المستمر في نيات إيران.

من الإنصاف القول إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية تواجه تحديًا مزدوجًا: الحفاظ على مصداقيتها كجهة فنية مستقلة، وعدم الانجرار وراء أجندات بعض الدول التي تسعى لاستخدام تقاريرها كأوراق تفاوض أو تصعيد. وفي المقابل، فإن على إيران أن تدرك أن الشفافية المطلقة في هذه المرحلة الحساسة تخدم مصالحها الوطنية، وتفتح الباب أمام تحسين شروط التفاوض، بدل الانغلاق في حالة من الشك المتبادل.

ما يحتاجه الطرفان اليوم ليس تصعيدًا في النبرة ولا تسريبًا استباقيًا للاتهامات، بل آليات بناء ثقة تبدأ من الميدان: زيارات مفتوحة، تفسيرات مفصلة، وضمانات تُطمئن الوكالة بأن لا أنشطة غير معلنة تجري في الخفاء، وفي الوقت نفسه تمنح إيران حقها المشروع في تطوير برنامج نووي سلمي تحت سقف القانون الدولي.

يبقى أن التعاون بين طهران والوكالة لم ينقطع، رغم التوتر. ورغم الانتقادات المتبادلة، لا تزال خطوط الاتصال قائمة، وهو ما يشكّل عنصرًا مهمًا يجب البناء عليه، لا تقويضه. وفي لحظة اقليمية ودولية شديدة الحساسية، قد يكون الحفاظ على هذا الخيط المهني الرقيق بين الطرفين هو ما يمنع تحوّل التوتر الفني إلى أزمة سياسية شاملة لا يحتاجها أحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار