روح الله الخميني.. ثورة وقدوة “النجف تحيي ذكراه بدموع الولاء ولهيب العقيدة” رسول حسين

روح الله الخميني.. ثورة وقدوة “النجف تحيي ذكراه بدموع الولاء ولهيب العقيدة”
رسول حسين
في عصرٍ ثقيل بالوجدان، ومفعمٍ بنداءات الخلود، احتضنت مدينة النجف الأشرف ـ ذلك المعقل الأبدي للفكر والروح ـ المؤتمر السنوي لرحيل الإمام الخميني قدس سره، تحت شعار “روح الله الخميني: ثورة وقدوة”، والذي أقامته مؤسسة الغري للمعارف الإسلامية برئاسة الشيخ قاسم الهاشمي، وسط حضور حاشد من كبار علماء الدين والشخصيات السياسية والمقاومة. في رحاب هذه الأرض المطهّرة، حيث ترقد أنفاس الأنبياء والأولياء، اجتمعت القلوب على إمامٍ ما تزال كلماته توقظ الضمائر، وثورته تؤجج في النفوس لهيب الكرامة.
امنذ الساعات الأولى للعصر، بدأ الزوّار بالتوافد إلى قاعة المؤتمر التي عجّت بعبق التاريخ وسكون الإيمان. بدا المشهد وكأن النجف تعود أربعين عامًا إلى الوراء، حين كان الإمام الخميني يمشي على ترابها وقلبه معلق بسماء طهران. دخل الوفد تلو الآخر، أبرزهم وفد المرجعية الدينية العليا برئاسة الشيخ الأستاذ جميل الربيعي، أحد وجوه الحوزة العلمية المتألقة، وكذلك وفد منظمة بدر – مكتب النجف يتقدمهم الحاج محسن التميمي، الذين جلسوا في الصفوف الأولى، وكلٌّ يحمل في عينيه قصة، وفي صدره وصية.
افتُتح المؤتمر بتلاوة عطرة من القرآن الكريم بصوت الحاج كريم منصوري من الجمهورية الإسلامية، كأن الحناجر صدحت بما توحّد عليه الدم والموقف. ثم اعتلى المنبر الشيخ قاسم الهاشمي، الرجل الذي بات رمزًا للوفاء في زمن التبدّل، ليلقي كلمة مؤسسة الغري. تحدث الشيخ عن الإمام الراحل لا بصفته فقيهًا وقائدًا فحسب، بل كنبضٍ يسكن وجدان الأمة، وروحٍ تجاوزت حدود الجغرافيا.
قال الهاشمي بصوت خاشع: “لم يكن الإمام الخميني رجلاً يمشي على الأرض فحسب، بل كان روحًا تمشي على نصل الزمان، تعلّمنا منه أن نصنع النصر من وسط الهزيمة، وأن ننتزع السيادة من مخالب الطغاة، وأن نحيا بكرامة حتى لو عشنا فقراء”. انفجرت القاعة بمشاعر حار، تخللها بكاء خفيّ، وكأن النجف تذكر جيدًا ذلك السيد الجليل الذي سكن زواياها ذات يوم.
اثم جاء دور الشيخ جميل الربيعي، القادم من صلب المرجعية وحنايا الحوزة، ليروي حكاية من عاشر الخميني وعرف مقامه. تحدث بلغة الدموع والعقل، قائلاً: “الإمام الخميني كان قدوة ليس فقط في اجتهاده الفقهي، بل في جرأته الروحية. رأيناه كيف كان يواجه الشاه، لا بحسابات السياسة، بل بحسابات اليقين. رأيناه ينام على الطين ويكتب مصير الأمة بالحبر والدم معًا”.
وشدّد الربيعي في كلمته على أن المقاومة هي الوصية الحية التي تركها الإمام الخميني في عنق الأمة، مشيرًا إلى أن ما يجري في فلسطين ولبنان والعراق واليمن هو انعكاس لمدرسة الولاية التي أطلقها الإمام الراحل، والتي جعلت من الدين مشروعًا للتحرر لا للانعزال.
وكانت الكلمة الأشد وقعًا قبل بداية المؤتمر من خلال لقاءات تلفزيونية مع قنوات عديدة من ممثل منظمة بدر – النجف الحاج التميمي، الذي تحدّث باسم الشهداء والأحياء، قائلاً: “نحن أبناء المدرسة التي خطّها الخميني، ومدادنا هو الدم، وسلاحنا هو العقيدة. نحن الذين كنّا أطفالاً نسمع صوته في إذاعة الثورة، فحملناه في قلوبنا وكبرنا عليه. واليوم نقاتل على نفس الجبهات التي رسمها الإمام بصرامة الأنبياء”. وأضاف بصوتٍ متهدّج: “بدر ليست فقط فصيلاً سياسيًا، بل هي روحٌ من روح الله”.
في فقرةٍ مؤثرة من المؤتمر، عُرض فيلم وثائقي قصي، يعرض مشاهد أرشيفية للإمام الخميني في النجف، يتبادل الحديث مع طلبة الحوزة، ويكتب رسائله الثورية من غرفته المتواضعة. بدا وكأن الحجر في النجف يتكلم من جديد، يحكي قصة رجلٍ غيّر العالم وهو يلبس عباءة ممزقة. ارتفعت أصوات البكاء في بعض زوايا القاعة، وشوهد عدد من الشخصيات وهم يمسحون دموعهم خلسةً بعباءاتهم، في مشهدٍ لن يُنسى.
في ختام المؤتمر، أُعلنت توصيات حملت مضمونًا واضحًا: “رسالة الإمام الخميني لا تزال حيّة في النجف كما في طهران، في الضاحية الجنوبية كما في غزة، في كربلاء كما في صعدة”. وشدد البيان الختامي على ضرورة استمرار نشر فكر الإمام الراحل في الحوزات، وفي أوساط الشباب، والتأكيد على مركزية ولاية الفقيه كضمانة لمواجهة الاستكبار العالمي.
كان هذا المؤتمر، بمضامينه وخطابه، أبعد من ذكرى وأكبر من مجرد فعالية سنوية. لقد كان بمثابة تعميدٍ جديدٍ للنجف في نهر الثورة، وتأريخٍ حيٍّ لولاء لا يموت. لقد قالت النجف اليوم للإمام الخميني: “ها نحن أبناؤك، نحفظ العهد، ونصون الولاية، ونمشي على طريقك ولو مزقنا التعب”.
وفي الطريق إلى الخارج، وقف أحد الحضور، شيخ طاعن في السن، وقال بصوتٍ مبحوح:
“لو عاد الإمام الخميني إلى هذه القاعة، لابتسم وقال: إن النجف ما زالت تحفظ السر”.
هكذا انقضى المساء في مدينة العلماء، لتغفو النجف وقد ازدادت بياضًا على بياض، وأصبحت ذكرى الإمام الخميني فيها، ليست ماضياً يُروى، بل حاضرًا يُقاتل، ومستقبلاً يُبنى.