عليّان من مشهد السيستاني والخامنئي… رُكنان للقيادة الشيعية في وجه الاستكبار العالمي”…… رسول حسين أبو السبح

“عليّان من مشهد السيستاني والخامنئي… رُكنان للقيادة الشيعية في وجه الاستكبار العالمي”
رسول حسين أبو السبح
في مدينة مشهد المقدسة، وتحديدًا في العقد الرابع من القرن العشرين، وُلد رجلان قدّران أن يكونا لاحقًا قطبي القيادة الشيعية في العالم: السيد علي السيستاني عام 1930، والسيد علي الخامنئي عام 1939. وكأن التاريخ كان يُحضّر الأمة لمرحلة صراع طويل مع قوى الاستكبار العالمي، فأنبت في تربة مشهد الطيبة زعيمين أحدهما سيقود المرجعية الدينية في النجف الأشرف، قلب التشيع العلمي والروحي، والآخر سيقود الجمهورية الإسلامية في إيران، مركز القرار السياسي المقاوم للاستكبار.
منذ ولادتهما، ورغم اختلاف السياقات السياسية والجغرافية، اجتمع الرجلان في خط مشترك: مقاومة الظلم، وصيانة الهوية الإسلامية، والوقوف بصلابة أمام مشاريع الهيمنة الغربية. فكيف واجه السيستاني الاستكبار من عرش المرجعية في النجف، وكيف واجه الخامنئي الاستكبار من على سدة القيادة في طهران؟ وكيف أكمل أحدهما دور الآخر رغم المسافات والصور النمطية المختلفة؟
جذور مشتركة لقيادتين استثنائيتين
وُلد السيد علي الحسيني السيستاني في 4 أغسطس 1930م في مدينة مشهد الإيرانية لعائلة علمية هاجرت سابقًا من النجف¹. أما السيد علي الحسيني الخامنئي، فولد بعد تسع سنوات من ذلك في 17 يوليو 1939م، في ذات المدينة وفي بيئة دينية محافظة². كلاهما نشأ في أوساط علمية جعفرية ملتزمة، تربيا على نهج أهل البيت عليهم السلام، ونهلا من مناهل الحوزة العلمية في مشهد قبل أن يتوجها لاحقًا إلى قم والنجف.
الحارس الصامت للهوية الشيعية في العراق
بعد انتقاله إلى النجف وتتلمذه على يد كبار العلماء كالسيد الخوئي، أصبح السيستاني أحد أعمدة المرجعية في العالم الشيعي، متبوئًا موقع المرجع الأعلى بعد وفاة أستاذه الخوئي عام 1992م³. واجه السيستاني التحديات الكبرى التي عصفت بالعراق، خصوصًا بعد الغزو الأمريكي عام 2003، فكان صوته المرجعي صمّام أمان في مرحلة الفراغ السياسي والفوضى الأمنية. دعا إلى كتابة الدستور بإرادة الشعب، وأصر على إجراء انتخابات ديمقراطية مبكرة⁴.
رغم عزوفه عن الظهور السياسي المباشر، فإن توجيهاته كانت واضحة في رفض الهيمنة الأمريكية على القرار العراقي، بل لعب دورًا محوريًا في الحفاظ على استقلال القرار العراقي، ورفض الوصاية الغربية، ودعم المقاومة الثقافية والاجتماعية ضد الاحتلال.
المصدر:
¹”حياة السيد السيستاني”، مركز الأبحاث العقائدية، ص. 14
³”المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف”، تحقيق مركز تراث النجف، ص. 212
⁴البيان الرسمي لمكتب السيد السيستاني حول الانتخابات، النجف، كانون الثاني 2005
من عالم الدين إلى قائد الثورة الإسلامية
تدرج السيد الخامنئي في الحوزات العلمية، وكان من تلامذة الإمام الخميني قدس سره. اعتقل مرارًا في عهد الشاه بسبب نشاطه الثوري، وبعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 كان أحد أبرز مساعدي الإمام الخميني، ثم تولى منصب رئيس الجمهورية، وبعد وفاة الإمام عام 1989 اختير بالإجماع قائدًا للجمهورية الإسلامية⁵.
قاد الخامنئي إيران في مرحلة الحرب، والحصار، والتآمر الدولي. وقف ضد الولايات المتحدة والكيان الصهيوني موقفًا لا لبس فيه. دعم حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، رافعًا شعار “لا شرقية ولا غربية”، وبنى خطابًا أمميًا يرفض كل أشكال التبعية للغرب.
المصدر:
⁵”السيد علي الخامنئي، مسيرة حياة”، مؤسسة الإمام الخامنئي للدراسات، ص. 80
بين السيستاني والخامنئي، تناغم غير مُعلن في وجه الاستكبار
رغم اختلاف الأسلوب بين المرجعية النجفية التي تتخذ منهج الانكفاء السياسي، وقيادة الثورة الإسلامية ذات الدور التنفيذي المباشر، فإن الرجلين تقاطعا في مواقف مصيرية. كلاهما وقف إلى جانب الشعوب، ودعما الوحدة الإسلامية، ورفضا التطبيع مع الاحتلال.
في فتوى الجهاد الكفائي عام 2014، التي أطلقها السيد السيستاني، وُلد الحشد الشعبي الذي ساهم في دحر داعش، وهو المشروع الذي نال دعمًا لوجستيًا ومعنويًا من محور المقاومة بقيادة إيران والخامنئي. هذا التناغم الاستراتيجي بين النجف وطهران، رغم الاختلاف في الخطاب، شكّل سداً منيعاً أمام مشروع التقسيم والفوضى الأمريكية.
في مواجهة التطبيع والتطويع، ثنائية الرد والصمود
بينما كانت بعض الأنظمة العربية تُسارع إلى التطبيع مع “إسرائيل”، وقف الخامنئي ليصف الكيان بأنه “غدة سرطانية” يجب اقتلاعها، وأعلن بوضوح: “أي تطبيع مع الصهاينة هو خيانة كبرى”⁶.
من جهته، عبّر السيستاني عن رفضه الضمني للتطبيع في لقائه التاريخي مع بابا الفاتيكان، مؤكدًا على ضرورة احترام حقوق الشعب الفلسطيني، ورفض الظلم والاحتلال بأي شكل⁷.
المصدر:
⁶”خطاب السيد الخامنئي في يوم القدس العالمي”، طهران، مايو 2020
⁷”بيان لقاء السيد السيستاني ببابا الفاتيكان”، موقع مكتب السيد السيستاني الرسمي، 6 مارس 2021
عليان من مشهد، ووجه واحد للمقاومة
إنَّ القيادة الشيعية في العصر الحديث قد تجلت في هذين العلمين: السيد السيستاني بمرجعيته الصامتة الحكيمة، والسيد الخامنئي بقيادته الثورية الجريئة. ورغم تباعد الأدوار وتفاوت الأساليب، إلا أن الجوهر واحد: الإسلام المقاوم، والدفاع عن المستضعفين، ومواجهة الاستكبار العالمي بكل أشكاله.
هذان العليّان، اللذان خرجا من رحم مدينة مشهد، أثبتا للعالم أن القيادة الحقيقية لا تولد من قصور الحكم، بل من محراب التقوى، ومن محرقة الجهاد العلمي والروحي والسياسي.


