المقالات

الدخان الأبيض من شيكاغو “انتخاب ليو الرابع عشر وملحمة التغيير في الفاتيكان” … رسول حسين 

الدخان الأبيض من شيكاغو “انتخاب ليو الرابع عشر وملحمة التغيير في الفاتيكان”

 

رسول حسين

في قلب الفاتيكان، بين جدران سيستين الشاهقة، وبينما تعالت أنفاس العالم مترقبةً اللحظة التي يصعد فيها الدخان الأبيض، خرج الخبر: لقد تم انتخاب البابا الجديد. لم يكن هذا فقط انتخابًا آخر في تاريخ الكرسي الرسولي، بل كان زلزالًا روحانيًا وسياسيًا بكل المقاييس. للمرة الأولى في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، يعتلي السدة البابوية رجل من شيكاغو، الولايات المتحدة الأمريكية: الكاردينال روبرت فرانسيس بريفوست، الذي اختار اسم “ليو الرابع عشر”، ليبدأ فصلًا جديدًا في سردية الكنيسة العالمية. هذا الحدث غير المسبوق لم يمر كخبر عاجل فقط، بل كتحول ثقافي وروحي يطرح تساؤلات أعمق حول اتجاهات الكنيسة، توازن القوى الروحية، والتحديات القادمة.

 

ما بعد البابا فرانسيس – الكنيسة تبحث عن هوية جديدة رحيل البابا فرانسيس مثّل نهاية حقبة اتسمت بالانفتاح، والتقشف البابوي، ودعوات إصلاح الكنيسة من الداخل. ومع تقاعده الصحي المفاجئ مطلع عام 2025، أصبحت التحديات الموروثة من فترته – من قضايا الاعتداءات، إلى هجرة المؤمنين، إلى الانقسام الكنسي بين المحافظين والتقدميين – فجوة تنتظر من يملؤها. وكان لابد من شخصية تجمع الحزم الروحي والحنكة السياسية.

 

كان المجمع البابوي، أو ما يعرف بـ “الكونكلاف”، في موقف حرج: هل يُنتخب بابا أوروبي يعيد التوازن التقليدي؟ أم تُكسر القواعد ويُنتخب شخصية عالمية تمثل العالم الجديد؟ في قلب هذه الحيرة، كان اسم بريفوست يتردد، ولكن بحذر.

 

بريفوست، سيرة أمريكية بلون كنسي لاتيني روبرت فرانسيس بريفوست، وُلد في شيكاغو عام 1955 لعائلة كاثوليكية من الطبقة الوسطى، تأثر في شبابه بحركات العدالة الاجتماعية، وقرر الانضمام إلى رهبنة القديس أغسطينوس. لم يكن مجرد رجل لاهوت تقليدي، بل اختار أن يخدم أكثر من 20 عامًا في بيرو، في الأحياء الفقيرة، ليكتسب جنسية بيروفية لاحقًا.

 

خدم كأسقف في شيكلايو، وهناك، بنى سمعته كراعٍ محبوب، ومفكر منفتح على قضايا العالم الثالث. وفي عام 2023، عيّنه البابا فرانسيس رئيسًا لمجمع الأساقفة، كإشارة على الثقة والتمهيد لما هو قادم.

 

الدخان الأبيض والمفاجأة العالمية في 7 مايو 2025، دخل 133 كاردينالًا قاعة سيستين، حيث لا مكان للهواتف ولا للاتصال الخارجي، في عزلة روحية تامة. في اليوم الثاني، وبعد أربع جولات من التصويت، تصاعد الدخان الأبيض، معلنًا التوافق على اسم جديد: بريفوست. العالم أصيب بالذهول. “أمريكي؟ في الفاتيكان؟” كانت التساؤلات تتقاطع مع ترحيب حذر.

 

الجماهير في ساحة القديس بطرس صمتت لحظة، قبل أن تهتف بحماس. ظهر البابا الجديد على الشرفة، بصوت هادئ ولكن عميق، قائلًا: “إخوتي وأخواتي، دعوت من بعيد، من الغرب، ولكن قلبي في روما. صلّوا لي وأنا أصلي لكم.”

 

اسم البابا – لماذا ليو الرابع عشر؟ اسم البابا ليس عبثًا. كل بابا يختار اسمه بعناية. اختار بريفوست اسم “ليو” تيمنًا بالبابا ليو الثالث عشر، الذي عرف في أواخر القرن التاسع عشر بانفتاحه على قضايا الطبقة العاملة، والاشتراكية المعتدلة، وإصدار وثيقة “العدالة الاجتماعية”. ليو الثالث عشر كان يُلقب بـ”بابا العمّال”. ويبدو أن البابا الجديد أراد أن يبعث برسالة ضمنية مفادها: الكنيسة لن تقف على الحياد في قضايا الفقر والظلم بعد الآن.

 

ردود الفعل – بين الترحيب والتوجس لم يكن العالم موحدًا في ردة فعله. في أمريكا، عمّ الترحيب الرسمي والشعبي، وكتب الرئيس الأمريكي تغريدة قال فيها: “انتخاب أحد أبناء شيكاغو للفاتيكان هو لحظة فخر لأمتنا والعالم.” أما في أوروبا، فتفاوتت الردود: الفاتيكان كان تقليديًا في طبيعته، ووجود بابا أمريكي يحمل نكهة العالم الجديد أحدث بعض الهزات.

 

أما في أمريكا اللاتينية، فقد استُقبل الحدث على أنه انتصار مزدوج: الأمريكي اللاتيني الذي حمل همومهم في بيرو بات الآن باباهم. وكتب أحد اللاهوتيين من البرازيل: “لأول مرة، البابوية تتحدث بالإسبانية الروحية.”

 

التحديات الكبرى – الإصلاح من الداخل البابا الجديد سيواجه تركة ثقيلة.

 

أولها إعادة الثقة إلى مؤسسة اهتزت جراء قضايا التحرش والفساد المالي. عليه أيضًا أن يعيد هيكلة الإدارة الكنسية لتكون أكثر شفافية، ويواجه تيارات محافظة تخشى أي إصلاح مفرط.

 

ثانيًا، يعاني الغرب الكاثوليكي من انحسار شديد في أعداد المصلين والكهنة. فيما تنمو الكنيسة في أفريقيا وآسيا، يتراجع تأثيرها في أوروبا وأمريكا الشمالية. فهل يستطيع ليو الرابع عشر أن يعيد الحماسة إلى هذه القلوب الخاملة؟

 

ثالثًا، القضايا الأخلاقية: زواج المثليين، دور المرأة في الكنيسة، العلمانية، وكلها ملفات حارقة. البابا ليو لم يعلن عن توجهه الواضح بعد، لكنه معروف بانفتاحه النسبي، وتمسكه بروحانية تقشفية.

 

خطاب البابا الأول – مفاتيح للمرحلة القادمة في اليوم التالي لانتخابه، ألقى البابا الجديد خطابه الأول، بعنوان “لنكن كنيسة تعبر إلى العالم”. كان الخطاب حادًا في مواضع، ومتعاطفًا في أخرى، تحدث فيه عن:

 

1 أهمية النزول من أبراج العاج اللاهوتية.

 

2 ضرورة الإصغاء إلى الشعوب الفقيرة.

 

3 التمسك بجوهر الإيمان مقابل المظاهر الاحتفالية.

 

4 كرامة الإنسان قبل السلطة.

 

 

كانت رسالته الأهم: “الكنيسة ليست متحفًا للمقدسات، بل خيمة مفتوحة للباحثين عن النور.”

 

الفاتيكان في ظل قيادة أمريكية – هل يتغير ميزان القوى؟ بعض المراقبين يعتقدون أن هذا الحدث يمثل انزياحًا في مركز الثقل داخل الكنيسة من أوروبا إلى الأمريكيتين. وجود بابا أمريكي قد يعزز العلاقات بين الفاتيكان وواشنطن، لكنه في الوقت ذاته يثير حساسية لدى الكنائس الشرقية والأفريقية.

 

من جهة أخرى، شخصية ليو الرابع عشر المتواضعة والميدانية قد تكون صمام أمان ضد أي توظيف سياسي لسلطته الروحية.

 

البابا واليوبيل المقدس 2025 عام 2025 يُعد عامًا رمزيًا: اليوبيل المقدس الذي يحتفل به الكاثوليك كل 25 سنة. اختيار ليو الرابع عشر في هذا التوقيت أعطى الاحتفال طابعًا تاريخيًا. فتح الأبواب المقدسة بنفسه، وخصص جزءًا كبيرًا من الاحتفالات لذوي الاحتياجات، واللاجئين، والمرضى.

 

أعلن عن حملة عالمية بعنوان “عام الشفاء”، دعا فيها الكنائس إلى أن تكون مراكز للعلاج الروحي والاجتماعي.

 

من الغرب إلى العالم – رسالة بابوية جديدة هل يكون انتخاب ليو الرابع عشر علامة على حقبة جديدة؟ يبدو أن الكنيسة الكاثوليكية أرادت أن تعكس عالمية رسالتها فعليًا. لقد أرسلت رسالة مفادها أن الفاتيكان لم يعد حكرًا على أوروبا، بل بيت لكل مؤمن. لكن التجربة الأمريكية في البابوية ما زالت في بدايتها، وتحتاج إلى ملامح واضحة.

 

انتخاب ليو الرابع عشر ليس مجرد حدث كنسي، بل نقطة تحول. شخصية تجمع بين اللاهوت والعدالة، بين الروحانية والتجربة، بين الغرب والعالم الثالث. إنه بابا في زمن معقد، يقف عند مفترق طرق: هل يعيد الروح إلى الكنيسة المتعبة؟ هل يصالح العوالم المتناحرة روحيًا وسياسيًا؟ أم سيكون تجربة عابرة؟ الجواب في يد البابا القادم من الغرب، ومن قلب شيكاغو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار