المقالات

“قاعة الخلد… حين أكل الطاغية أبناء حزبه، وماتت الثقة في الأُطر الحزبية” ….. رسول حسين أبو السبح

“قاعة الخلد… حين أكل الطاغية أبناء حزبه، وماتت الثقة في الأُطر الحزبية”

 

رسول حسين أبو السبح

الذكرى السنوية لمجزرة قاعة الخلد، التاريخ، 22 تموز 2025

 

المشهد الدموي الذي فتح باب الجنون… في مثل هذا اليوم من عام 1979، احتشدت وجوه حزب البعث الحاكم في العراق داخل قاعة الخلد ببغداد، لا لتشهد حفل بيعةٍ أو عرضاً مسرحياً، بل لتكون شهودًا وضحايا على أكثر مشاهد الانقلابات الحزبية دموية في التاريخ المعاصر. كان القاتل والمخرج والكاتب والبطل هو ذاته، صدام حسين.

 

بعد أيام قليلة من استقالة أحمد حسن البكر، صعد صدام إلى منصة الزعامة، لكنه لم يكن واثقًا من قلوب رفاقه في الحزب، رغم أنّهم شاركوه خنادق المؤامرة، ومستنقعات الدم، وصعود البعث العنيف. فقرر أن يقدّم للعالم مشهداً عبثيًا مرعبًا يعكس طبيعته الحقيقية، لا مكان إلا له، ولا نجاة لمن حوله.

 

تفاصيل المجزرة، حين تحوّلت القاعة إلى مسلخ سياسي… في 22 تموز 1979، دعا صدام أعضاء القيادة القطرية للحزب ومسؤولي الدولة إلى اجتماع استثنائي في قاعة الخلد، بحضور حشد من الإعلاميين المحليين والأجانب. بدأ الجو في البداية كعرضٍ حزبي معتاد، قبل أن يفجّر صدام قنبلته، “هناك مؤامرة داخل الحزب، ويقودها أحد رفاقنا!”

 

بعد لحظات من الترقب والذهول، أمر صدام بإحضار عضو القيادة محيي عبد الحسين المشهدي، والذي تلا اعترافًا مكتوبًا بأنه جزء من مؤامرة مزعومة بالتنسيق مع النظام السوري. لم يُتح للمشهدي أو للمتهمين الآخرين أي فرصة للدفاع أو التحقق من المزاعم. بل تحوّل الاعتراف إلى فاتحة سلسلة اعتقالات وإعدامات ميدانية استمرت أيامًا.

 

تم خلال ساعات اعتقال أكثر من 68 عضواً من القيادة البعثية، أُعدم أغلبهم لاحقاً، بعضهم على يد رفاقهم في الحزب، بإجبار صدام لهم على تنفيذ الإعدامات بأيديهم، فيما يشبه “طقوس الولاء الدموي”.

 

الرسالة التي أراد صدام إرسالها… لم يكن صدام في حاجة إلى دليل أو قناعة، بل كان بحاجة إلى الخوف المطلق. رسالته واضحة، الحزب لي، وأنا من يمنح الحياة والموت. كانت مجزرة قاعة الخلد إعلاناً رسمياً بأن أي خلاف داخلي يُعد خيانة، وأنّ التنظيم الحزبي ليس شبكة تضامن، بل شرك للصيد، وحبل مشنقة.

 

هذا الحدث لم يكن موجّهًا لأعضاء الحزب فقط، بل لكل الشعب العراقي، بأنَّ الرجل الذي صعد للتو، مستعد لإبادة أقرب المقربين إليه من أجل السلطة.

 

النتيجة، حكم الرعب، وموت المؤسسات… مع تلك اللحظة الدامية، دخل العراق في مرحلة من الحكم الفردي المطلق. لم يعد للحزب دور سوى تأييد الزعيم، وفُرغت المؤسسات من أية قيمة، وأصبح كل عضو في الدولة أداة طيّعة في يد “السيد الرئيس”. وماتت السياسة بمعناها الحقيقي، إذ سادت مفردات الانصياع والتملق بدل التعدد والاختلاف.

 

إسقاط التاريخ على الحاضر، النسخة الجديدة من قاعة الخلد… رغم تغيّر الأسماء، وتبدّل الوجوه، إلا أن “عُقدة قاعة الخلد” ما زالت حيّة في بعض الأحزاب المعاصرة، ففي غير حزبٍ اليوم، نجد قيادات تُقصي العناصر النشطة والمؤثرة بدعوى “التمرد على القيادة” أو “العمل خارج السياق التنظيمي”، حتى وإن كان الناشط يحقق إنجازًا جماهيريًا أو فكريًا.

 

لا يختلف هذا عن منطق صدام حسين في جوهره، أي بروز خارج الظل يُعد تهديدًا. فقد تحول الكثير من الأحزاب العراقية إلى مسارح مغلقة يُخرجها زعيم أو هيئة ضيقة تخشى من كل عقل نقدي، وكل طاقة جديدة.

 

أين الناشطون الذين كانوا في الواجهة؟ أين الكوادر التي صنعت فكر الحزب أو حرّكت شارعه؟ أغلبهم تم “تحييده” أو تشويهه، أو استبداله بـ”المطيعين”. وكأنّ قاعة الخلد تتكرر، ولكن بدون دماء، وبأساليب أكثر “ديمقراطية”.

 

 

الطغيان لا يُولد دفعة واحدة… مجزرة قاعة الخلد كانت درسًا مرعبًا في كيف يُمكن أن تتحوّل التنظيمات من أدوات للتغيير إلى مقاصل داخلية. حينما يُصبح الزعيم فوق المؤسسة، والخوف هو الحاكم الفعلي، فإنّ الدماء هي الثمن، وإن تأجلت قليلاً.

 

تأسّت بعض الأحزاب اليوم بهذا النموذج الدموي، فتخلت عن عقولها من أجل “الطاعة”، وأقصت الأصوات الحرة، ففقدت بريقها، وسارت نحو الموت البطيء.

 

لقد آن الأوان لنبش الذاكرة، ليس لنَكْأ الجراح، بل لتذكير الأحزاب والجماعات، أن قاعة الخلد لم تكن مجرّد مجزرة… بل كانت نبوءة زوال كل تنظيم يقتل أبناءه.

 

المراجع

 

1. حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، المركز العربي للأبحاث، الجزء الثالث.

2. سعد البزاز، حكم صدام: سنوات الخوف، دار الجمل، ط1، 2003.

3. كنعان مكية، جمهورية الخوف، ترجمة فاضل عباس، صـ154-160.

4. حازم صاغية، صدام حسين: السلطة والإرهاب، دار الساقي، صـ92-95.

sura

وكالة شعاع نيوز وكالة اخبارية... الخبر ....كما هو...

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار